مقدمة: الحوسبة المكانية والأجهزة القابلة للارتداء
تشهد التقنيات الناشئة اليوم اندماجًا متسارعًا بين العالمين الرقمي والفعلي، إذ يقف الذكاء الاصطناعي على أعتاب قفزة نوعية يَدفَعُها تطوّر الأجهزة الذكية. ففضلاً عن زيادة قدرة الخوارزميات، يشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الحوسبة المكانية (Spatial Computing) والواقع الممتد (XR) والأجهزة القابلة للارتداء المدعومة بالذكاء الاصطناعي تفتح نموذجًا حوسبيًا جديدًا يربط بين الرقمي والمادي

صورة تخيلية لمستخدم يلتقط عناصر معلوماتية افتراضية بارتداء نظارة واقع معزز مدعومة بالذكاء الاصطناعي. الحوسبة المكانية تمثّل بيئةً تفاعلية ثلاثية الأبعاد تدمج البيانات الرقمية بعالمنا الواقعي، بحيث تفهم الأجهزة الأبعاد المحيطة بالسياق الإنسانيweforum.org. ومن جهة أخرى، تُعرِّف التقارير الأجهزة القابلة للارتداء (wearables) بأنها أجهزة إلكترونية مصمَّمة للارتداء على الجسم (كالساعات أو النظارات الذكية والمجوهرات الذكية)، وغالبًا ما تتضمّن قدرات معالجة أو اتصالاتtechtarget.com. بهذه الطريقة تصبح هذه الأجهزة بمثابة “حواس متنقلة” تجمّع المعلومات الحسية وتنقلها إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليلها.

لا يقتصر الأمر على الأبحاث الأكاديمية بل يمتدّ إلى ميدان الصناعة. فقد كشفت طلبات التسجيل الأخيرة لشركة (OpenAI) عن اهتمامها بمجموعة واسعة من الأجهزة، تشمل السماعات، ونظارات الواقع الافتراضي/المعزز، والساعات والمجوهرات الذكية، بل ووصل الأمر إلى روبوتات شبيهة بالبشر قابلة للبرمجة والتعلمtechcrunch.comtechcrunch.com. كما استثمرت شركات كبرى مثل (Meta) في تطوير نظارات واقع معزز ذكية مدعمة بالذكاء الاصطناعيaitnews.com.
تمكين الذكاء الاصطناعي من التفاعل مع العالم المادي
مع هذا التوجّه، يتحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة داخل الشاشات إلى شريك متجسِّد يتفاعل مباشرةً مع محيطنا. فبدل أن يظل محتجزًا خلف واجهات ثنائية الأبعاد، يخرج إلى العالم المادي من خلال أجهزة مُعزّزة بالحواس الصناعية. تتيح الحوسبة المكانية للأجهزة فهم البيئة والتفاعل مع عناصرها بنحو طبيعي ومستمرaitnews.comweforum.org. على سبيل المثال، يمكن لنظارات الواقع المعزز المدعومة بالذكاء الاصطناعي تفسير الإيماءات وتتبُّع حركة المستخدم وعرض معلومات سياقية بشكل فوريweforum.orgweforum.org. كما تراقب الساعات الذكية باستمرار المؤشرات الحيوية لصحة المستخدم وتنقلها إلى خوارزميات تحليلية لتقديم تنبيهات أو توصيات صحية.

يتطلب تحقيق مثل هذا التفاعل المباشر بنية تحتية تقنية متطورة. فالأجهزة يجب أن تضمُّ مجموعة من الحساسات المتقدمة (كاميرات عميقة، ليدار، مستشعرات حركة، مستشعرات حيوية) وقادرًا على تفسير البيانات الحسية في الوقت الحقيقي بدقة عاليةaitnews.com. كما تنتقل واجهات المستخدم من الأزرار والشاشات اللمسية التقليدية إلى أنماط أكثر طبيعية؛ فالإيماءات الصوتية، وتعابير الوجه، وتعقب العين، والتفاعل اللمسي (Haptic Feedback) أصبحت وسائلا رئيسية للتحكمaitnews.com. في هذه المرحلة، أصبحت الأجهزة نفسها وسيط الذكاء الاصطناعي في العالم الحقيقي، حيث تعمل كنقاط وصل بين المعلومات الرقمية والواقع المادي المحيط.
تطبيقات واقعية
الرعاية الصحية
تُشكل الرعاية الصحية أحد أبرز مجالات الاستفادة من هذه التقنيات. فقد دمجت بعض المستشفيات أحدث أجهزة الحوسبة المكانية لتسهيل الإجراءات الطبية والتدريب. فعلى سبيل المثال، استخدم فريق طبي في جامعة ستانفورد نظارة الواقع المعزز Apple Vision Pro خلال عملية قلب مفتوح لعرض بيانات المريض مباشرةً أمام أنظار الجراحmed.stanford.edu. واعتبر المدير التنفيذي للمستشفى أن تقنيات الرؤية المكانية لها «قدرة هائلة على تعزيز بيئة غرفة العمليات»med.stanford.edu. بالموازاة، صارت الأجهزة القابلة للارتداء تُمكِّن المتابعة الحية لصحة المرضى؛ فالساعات الذكية وأجهزة قياس النشاط تراقب باستمرار معدل نبض القلب ومستويات الأكسجين وحتى مؤشرات النوم، ويربط الذكاء الاصطناعي هذه البيانات لتحليلها والتنبؤ بالمشكلات الصحية مبكرًاpmc.ncbi.nlm.nih.gov. وقد صرح خبراء تكنولوجيا الصحة بأن الحوسبة المكانية تفتح “نموذجًا جديدًا” لتفاعل الأطباء مع المعلومات الطبية، ما يعزز كفاءة الرعاية ويفتح آفاقًا في التشخيص والعلاجhealthtechmagazine.net.

المدن الذكية
تشير التوقعات إلى أن المدن الذكية ستستفيد بشكل كبير من اندماج الحوسبة المكانية والأجهزة القابلة للارتداء. ففي المستقبل القريب، قد ترتدي أنظمة المواصلات الذكية نظارات واقعية عرضية ليدخل ركابها إلى بيئات مُعزّزة بمعلومات آنية؛ على سبيل المثال، يمكن لنظارات AR تقديم إرشادات تنقل مباشرة على الطريق أو عرض معلومات باللغات المناسبة أثناء السياحةrapidinnovation.io. كما تستطيع أنظمة الرصد الحضري إرسال بيانات آنية (عن الازدحام المروري، جودة الهواء، إرشادات السلامة) إلى شاشات بنظارات الأفراد، مما يزيد من كفاءة تنقلات السكان ويعزز السلامة العامةgoodmaps.com. علاوة على ذلك، ستسهم الأجهزة القابلة للارتداء في مراقبة البنية التحتية الحضرية؛ فقد يُلبَس عمال الصيانة نظارات الواقع المعزز لعرض خرائط شبكية وصيانة السيارات الذكية، مما يحسّن فعالية الخدمات العامة ويقلل التكاليف.

الواقع المعزز
يعدّ الواقع المعزز (AR) محركًا رئيسيًا لتحسين تجربة المستخدم اليومية. فهو يتيح دمج المحتوى الرقمي بسلاسة مع العالم الحقيقي عبر كاميرات وهوائيات متصلة بالإنترنت. على سبيل المثال، توضح تجارب الملاحة الداخلية أن نظارات الواقع المعزز قادرة على إرشاد المستخدم في مطار أو مستشفى، بإضافة تعليمات مرور مدمجة ضمن مجال الرؤيةrapidinnovation.io. في مجال التسوق، يمكن للعميل أن يرى كيف سيبدو أثاث أو قطعة ديكور في منزله عبر النظارات قبل الشراء، ما يقلل معدل الإرجاع ويعزز رضا المستهلك. وبالإضافة للترفيه، تستخدم منصات الواقع الافتراضي دورات تدريب محاكاة في مجالات مثل التأهيل البدني أو التعليم الطبي، حيث يُمارس المستخدم التمارين أو العمليات الجراحية في بيئة آمنة تمامًا.

تحسين تجربة المستخدم
يساهم الاندماج بين الحوسبة المكانية والأجهزة الذكية في تقديم واجهات أكثر طبيعية وسهولة في الاستخدام. فبدل الاعتماد على الفأرة ولوحة المفاتيح، يتيح النظام الجديد للمستخدم التفاعل بالإيماءات والحركة والصوت. مثلاً، يمكن لخراتم ذكية أن تلتقط إيماءات اليد وتوفر استجابة لمسية، في حين تُستخدم نظارات الواقع المعزز لعرض محتوى المعلومات في المكان الملائم تمامًا. وفقًا لتقديرات الخبراء، فإن مثل هذه الأجهزة تسمح للذكاء الاصطناعي بفهم بيئاتنا وحالتنا النفسية بشكل أفضل، مما يجعل التفاعل اليومي مع التكنولوجيا أكثر سلاسة واستمراريةweforum.orgaitnews.com.

التحديات والفرص المستقبلية
على الرغم من هذا التقدم المذهل، توجد تحديات مستقبلية يجب معالجتها. فعلى صعيد الخصوصية والأمان، تعتمد التقنيات الجديدة على جمع كميات هائلة من البيانات الحساسة، ما يتطلب تأمينًا قويًا والتزامًا صارمًا بقوانين حماية البيانات. وقد أدى ذلك إلى تأجيل إطلاق بعض المنتجات في مناطق مثل أوروبا؛ فمثلاً، عانى مساعد (Meta AI) في نظارات Ray-Ban الذكية من تأخيرات تنظيمية بسبب متطلبات خصوصية البياناتreuters.com.
البنية التحتية التقنية: تطبيق الحوسبة المكانية يتطلب أجهزة استشعار متطورة ومعالجات سريعة للتعامل مع الكم الهائل من البيانات الحسية في الوقت الفعليaitnews.com. هذا يحتم تطوير معالجات متخصصة وحلول طاقة فعّالة لتغذية الأجهزة المحمولة.
تكامل الأنظمة وتقبل المستخدم: يحتاج المستخدمون إلى تبنّي طرق تفاعل جديدة (كما ذكرنا، الإيماءات والصوت ونظارات الواقع المعزز)، كما تواجه الشركات تحدي ربط أنظمتها الجديدة بالبنى التحتية الحالية. كما يتطلب تطوير المحتوى المخصص لهذه المنصات استثمارات كبيرة من القطاعين العام والخاص.

مع ذلك، تظل الفرص المستقبلية واسعة ومشجعة. فتوسيع نطاق هذه التقنيات قد يُحدث ثورة في قطاعات متعددة. فمن جهة صحية، ستُسهم المراقبة المستمرة وتحليلات الذكاء الاصطناعي في اكتشاف مبكِّر للأمراض وتحسين رعاية المرضىpmc.ncbi.nlm.nih.gov. ومن ناحية حضرية، ستُسهم المعلومات الآنية المدعومة بالواقع في جعل المدن أكثر استجابة وذكاء في إدارة خدماتها. بل إن الخبراء يتوقعون أن ظهور تطبيقات كانت تعد للخيال العلمي، كروبوتات شخصية مدعمة بالذكاء الاصطناعي وجنود آلية، أصبح وشيكًا بفضل الأسس التي تُنشأ اليومaitnews.com. في المحصلة، تمثل الحوسبة المكانية والأجهزة القابلة للارتداء جسرًا نحو عصرٍ جديد من الذكاء الاصطناعي يعيش معنا ويفهم محيطنا، وسيستمر دمجهما مع الحوسبة في فتح آفاق وإمكانات لم نكن نتخيلها حتى الآن.